نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
القـومــيـة الكارثــية - صوت العرب, اليوم السبت 16 نوفمبر 2024 09:41 مساءً
تمرّ الحضارة الليبرالية بمرحلة دقيقة تتسم بتزايد التحديات من قوى سياسية متطرفة، ما يثير تساؤلات عميقة حول استدامة القيم الديمقراطية وقدرتها على مواجهة هذه الضغوط. يتطلب هذا التحول فهماً عميقاً للجذور الاجتماعية والنفسية التي تغذي هذه الظواهر، بالإضافة إلى إعادة التفكير في الهياكل الاجتماعية التي تركت فئات واسعة عرضة للخوف والعزلة، ما يجعل التصدي لهذا الواقع أمراً حتمياً.
يقدم ريتشارد سيمور في كتابه «القومية الكارثية: انهيار الحضارة الليبرالية»، نظرة عميقة حول التيارات الاجتماعية والسياسية التي ساهمت في صعود اليمين المتطرف، وتهدد استقرار الديمقراطية الليبرالية حول العالم. ينطلق سيمور من فرضية واضحة مفادها: بينما تستقطب شخصيات كاريزمية مثل دونالد ترامب وجايير بولسونارو انتباه الإعلام، فإنها مجرد تجسيد لقوى أكبر وخفية تهدد ليس فقط الاستقرار السياسي، بل جوهر الحضارة الحديثة. ويؤكد سيمور أن إزالة هؤلاء القادة من السلطة لن تحل الأزمة؛ بل من الضروري فهم اليأس الاجتماعي العميق والعزلة اللذين يغذيان هذا المد.
يقدم الكتاب معاينة شاملة لمفهوم «القومية الكارثية»، وهو مصطلح يستخدمه سيمور لوصف المزيج الخطير من الخوف والعزلة والغضب الذي أدى إلى موجة من الشعبوية اليمينية المتطرفة. وعلى عكس القومية التقليدية التي قد تعبّر عن فخر ثقافي أو هوية موحدة، فإن القومية الكارثية تتسم بجاذبيتها للصور المظلمة والافتتان بالرؤى المجتمعية المدمرة. هذا النوع من القومية يتلذذ بمشاهد الكوارث، ويؤكد سيمور أن هذه المشاعر تتضخم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ومن قبل قائمة متزايدة من المؤثرين اليمينيين. والنتيجة هي مزيج قوي من السخط الاجتماعي الذي يؤدي إلى أشكال متفجّرة من العنف الفردي، وقد يؤدي إلى أشكال جديدة من الاضطهاد المنظم.
صور ظلامية
يقول المؤلف إن«اليمين المتطرف الجديد مفتون بصور الكوارث من قبيل «لجان الموت»، «الإبادة البيضاء»، «الاستبدال الكبير للبيض بالمهاجرين»، «عصابات من عبدة الشيطان والمجرمين الشيوعيين»، «أسلمة»، «غزو الهجرة»، «خونة في المناصب»، «خدعة المناخ». «جائحة مُخطط لها»، «الشيوعية على الطراز الصيني»، «انتخابات مسروقة من قبل الدولة العميقة»، «دولة تحت هجوم من إرهابيين يساريين». «الحرب الأهلية هنا، الآن»، «جرعات من الأدرينالين».. وغيرها».
ويضيف: «تنتقل هذه السيناريوهات بسرعة إلى تحريض على العنف، «لا أستطيع الجلوس ومشاهدة شعبي يُذبح. تبّاً لمظهركم، سأتصرف». «اقتحموا الكابيتول». «مسيرة مسلحة نحو الكابيتول وجميع عواصم الولايات الأمريكية». «تعالوا مسلحين ببندقية، ومسدس، وسكينين، وأكبر قدر من الذخيرة تستطيعون حمله»، «لا تدعوهم ينزعون سلاح شخص دون تكديس الجثث». «اجلبوا الأصفاد ورباطات اليد». «تبّاً لرباطات اليد، سأجلب الحبال!». «أعلنوا الديكتاتورية». «استدعوا قانون التمرد لعام 1807، انشروا الجيش والحرس الوطني، واقضوا على المؤامرة اليسارية». «طبقوا الأمر التنفيذي 13848 وحققوا في تزوير الانتخابات». «العصابة الفاسدة، كما وصفها أحد الكتب الأكثر مبيعاً لدى كيو أنون، يجب إبادتها بشكل دائم من الأرض»، يحيا ترامب».
ويشير إلى أن «الانتفاضة الزائفة» في واشنطن العاصمة، في 6 يناير 2021، التي كانت تهدف ظاهرياً إلى وقف التصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية وإعادة ترامب إلى السلطة، «كانت محاولة انقلابية خيالية تغذيها معلومات مضللة عبر الإنترنت، خاصة من «كيو أنون» (ويمكن تعريف كيو أنون أنها في صميمها نظرية مؤامرة منتشرة لا أساس لها من الصحة، تؤكد أن ترامب يشن حرباً خفية ضد مجموعة من عبدة الشيطان يتحرشون جنسياً بالأطفال، متغلغلين في الأجهزة الحكومية والشركات ووسائل الإعلام). لكنها لم تكن الأخيرة من نوعها. ففي غضون أقل من عام، تم إحباط محاولة انقلاب مزعومة من قبل حركة «رايخسبورغر» النازية الجديدة في ألمانيا، واندفع مؤيدو الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو لاقتحام المباني الحكومية على أمل إثارة «تدخل عسكري»، بينما سار مقاتلو مجموعة فاغنر شبه العسكرية الروسية في منتصف الطريق نحو موسكو للإطاحة بالقيادة العسكرية التي يلومونها على الخيانة في الحرب على أوكرانيا.
ويؤكد أنه «في كل حالة، تم تبرير «الانتفاضة الزائفة» بجنون مؤامراتي. حيث تزعم حركة «رايخسبورغر» أن الجمهورية الفيدرالية الألمانية ليست دولة أمة، بل هي شركة أنشأتها قوى الحلفاء. ويؤمن مؤيدو بولسونارو بأن لولا، السياسي الوسطي الموالي للأعمال التجارية، هو شيوعي. أما يفغيني بريغوجين، زعيم مجموعة فاغنر، فيجادل بأن الحرب على «الأوخولس» (وهو مصطلح عنصري ضد الأوكرانيين) تُباع من قبل قيادة غير نقية عرقياً، في إشارة إلى الجنرال شويغو الذي ينحدر من مجموعة تركية إثنية أصلية في سيبيريا. والأكثر دلالة، أنه في معظم الحالات، كان من المتوقع أن تُنفذ محاولة الانقلاب من قبل «الأشخاص الجيدين» في السلطة: ترامب، بوتين، أو الجيش. وبطريقة مشابهة، كانت أعمال الشغب والعنف الغوغائي ضد اليسار الإسرائيلي المتبقي تحت حكم نتنياهو قبل وأثناء الهجوم الإبادي على غزة دعماً لأولئك في السلطة. أعمال العنف الجماعية في أماكن أخرى، يحفزها في الغالب هوس بأوهام الكوارث والخلاص، تم تمكينها من قبل الحكومات الوطنية. في الفلبين، حيث تحدث عمليات القتل بين الشرطة وتجار المخدرات، يتم الترويج لفرق الإعدام التطوعية بشكل متعمد».
ضعف الديمقراطية الليبرالية
يذهب تحليل سيمور إلى ما هو أبعد من الوصف البسيط، إذ يدعو القراء لمواجهة أسئلة صعبة حول طبيعة الديمقراطية الليبرالية نفسها. فهو يرى أن الإطار الليبرالي الذي يُعتبر أساس الحضارة الغربية ليس محصناً بالضرورة من الانهيار. بل إن نقاط ضعفه - التي تفاقمت بفعل التفاوت الاقتصادي، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي غير المنضبط، والشعور الواسع بالتهميش - هي ما تستغله القومية الكارثية. ووفقاً لسيمور، فإن هذه الفاشية الجديدة، إذا ظهرت بشكل كامل، لن تشبه الفاشيات السابقة؛ بل ستنبثق من يأس اليوم وانقطاع الروابط الاجتماعية، حيث تجد أرضاً خصبة في المجتمعات المنعزلة والميل المتزايد نحو العدمية.
يركز سيمور على الأبعاد النفسية والاجتماعية التي تغذي هذه الحركات، إذ ينقل النقاش من نقد ضيق يقتصر على قادة بعينهم إلى قراءة أوسع للعوامل المجتمعية. ومن خلال هذا المنهج، يُظهر كيف يمكن للصدمة الفردية والجماعية، مثل عدم الاستقرار الاقتصادي وتآكل المجتمع، أن تخلق خزاناً من الغضب والخوف المهيِّئين للاستغلال. كما أن رؤى سيمور تحمل طابعاً إنسانياً عميقاً، داعياً إلى مواجهة الإخفاقات التي عجزت فيها المجتمعات الليبرالية عن دعم الفئات الأكثر ضعفاً فيها.
بناء حاضنة جديدة وتعزيز الانتماء
ومع ذلك، فإن رسالة سيمور ليست خالية من الأمل. فبينما يقدم تحليلاً مقلقاً، فإنه يقدم أيضاً دعوة واضحة للتحرك، ويؤكد أن المعركة ضد هذه القوى ليست مجرد معركة سياسية، بل هي صراع أخلاقي ووجودي. فإذا أرادت الحضارة الليبرالية البقاء، يجب عليها معالجة العزلة التي في صميمها والعمل على بناء شعور جديد وشامل بالانتماء.
يعد هذا الكتاب الصادر عن دار فيرسو في 288 صفحة عملاً مهماً لأي شخص يسعى إلى فهم المشهد السياسي الحديث، ويذكّر القراء بأن مواجهة صعود اليمين المتطرف تستوجب التصدي للجروح المجتمعية الأعمق التي تغذيه. فهذه معركة لا تُكسب من خلال المناورات السياسية فقط، بل من خلال جهد تحويلي لإعادة بناء مجتمع قادر على التواصل، والتعاطف، والتضامن في مواجهة الانقسام والخوف.
أخبار متعلقة :