نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
يحيى خليل... أسطورة الجاز فى مواجهة العبث - صوت العرب, اليوم الأربعاء 4 ديسمبر 2024 08:21 مساءً
منذ ما يقرب من سبعمائة سنة عرفت البشرية عملية حلج القطن... انتشرت زراعته فاخترع الإنسان طريقة حلجه بشكل يدوى... ثم جاء رجل أمريكى اسمه إيلى ويتنى واخترع المكنة... مكنة حلج القطن... انفجرت ثورة المكن... واتسعت التجارة... واحتاج المكن إلى البشر فى المصانع التى جرى إنشاؤها بسرعة رهيبة... فكان أن وجدوا ضالتهم فى القادمين من إفريقيا السمراء طمعًا فى حياة جديدة هربًا من فقر الجنوب أو عبر تجار الرقيق... هؤلاء القادمون بغربتهم وأحلامهم وكوابيسهم وشياطينهم لم ينتبه لهم أحد من جامعى المال... استعبدوهم مجددًا... فى ظروف قاهرة كانوا يعملون لينعم العالم بخيوطهم الملونة... فماذا يفعلون؟... لم يكن أحدهم يملك سوى خطوة قدم وحشرجة حنجرة لا يبين صوتها وسط أصوات المكن... خافتة خرجت همهماتهم ثم سرعان ما غادرت الصدور مع خبط الأقدام تسعى... كانت أرواحهم فى حاجة إلى الطيران فيما أرجلهم مقيدة... هكذا كانت بداية موسيقاهم... همهماتهم التى تحولت إلى موسيقى فاجرة كانت البداية.
تلك الأرواح المتعثرة... تلك الخطوات الغاضبة... تلك الهمهمات الجريحة كانت نقطة النور التى التهمت الفراشات القادمة من كل أوجاع العالم الذى يبحث عن حريته ودموعه.
أصبح هناك ما يسمى بموسيقى الجاز... راحت بورصات القطن تخسف بالعالم... وراحت الألوان تصنع الموضات فى متاجر أمريكا وباريس... وراح العالم المحترق يبحث عن صيغة جديدة لعالم ما بعد الحرب... وراحت هذه الموسيقى تفتش عن مريديها... فكان أن تلقفها فى مصر شاب خجول من أبناء الحى الجديد شمال العاصمة... اسمه يحيى خليل.
لسنوات كان يفتش الفتى عن طريق مختلف... البدايات لم تكن سهلة... لكن مصر وقتها كانت رحبة... فى إحدى كنائس مصر الجديدة بدأت بروفات فرقة الفتى يحيى التى ضمت عددًا من أبناء الأجانب الذين كانوا يعيشون فى مصر وقتها.. وعدد من الحالمين عمر خورشيد وعزت أبوعوف وعزيز الناصر وانضم لهم عمر خيرت فى مرحله لاحقة.. كانت الموسيقى التى يلعبونها خالية من أوجاع سود أمريكا... لكنها روح متمردة على كل ما هو قديم... لا تخاصم الشرق... ولا تدمن الغرب... لكنها تمرح فوق سماوات الحرب والكراهية... فانتشرت فى القاهرة والإسكندرية وصار لها مريدون شتى... ثم سرعان ما راح الحالم يحيى يبحث عن براح أكبر فى أمريكا ذاتها.
لم يكن الأمر سهلًا بالطبع، لكن الفتى القادم من بلاد أم كلثوم وبليغ وعبدالوهاب بتراث الموالد وموسيقى الشرق وبحر المتوسط... عرف كيف يخترق الحواجز... واندمج فى رقصتهم حتى صار مثلهم يعرف من أين تأتى الموسيقى وإلى أين يذهب الإيقاع، فصنع تجربته الخاصة تلك التى استقبلتها مائتا مدينة فى عشرين دولة عبر خمسة آلاف حفل.
بنى خليل أسطورته الخاصة بصبر شديد... لكنّ حلمًا كان يراوده بأن يمزج موسيقاه بروح مصرية فعاد إلى النيل يبحث عن هوية جديدة للموسيقى التى يبدعها... بعد خمس عشرة سنة كاملة فى مسارح العالم عاد... ليجد بليغ حمدى وأحمد منيب ومجدى نجيب وعبدالرحيم منصور فى انتظاره، فكانت إحدى أهم تجارب انتقال الغناء المصرى من عصر السلطنة العثمانى إلى روح الموسيقى المصرية عبر شكل جديد كانت حنجرة محمد منير إحدى بواباته.
بعدها لم يتوقف خليل... وراح يبدر حكاواه على المقاهى... بحثًا عن الجاز المصرى... ونجح الرجل لسنوات فى أن يقيم دولة موسيقى الجاز فى العالم العربى... ورغم انتشار ظواهر موسيقية متعددة بعضها جيد وأغلبها ردىء... ظلت موسيقى يحيى خليل حاضرة لها ملايين العشاق الذين يتوافد الآلاف منهم إلى دار الأوبرا إذا ما أعلنت عن أحد حفلاته.
مؤخرًا قرر خليل أن يبقى فى مصر... أن يكتفى من الترحال... لكن بيروقراطية عقيمة تعطل أحلام الرجل وتمنع موسيقاه من الطيران... بعض الجهلة الذين لا يعرفون قيمة الرجل وقدر موسيقاه يعرقلون إيقاعات خليل الباحثة عما يداوى أرواحنا المهترئة حتى إنه يفكر فى الرحيل مجددًا... بعض الرءوس الخاملة لا يهمها القوى الناعمة التى تملكها مصر... وهؤلاء لا يعنيهم أن تتوقف الموسيقى أو تنتحر... والغريب أن على رأس وزارة الثقافة فنانًا تشكيليًا... لكن يبدو أن فى الوزارة من لا يريد للرجل أن يعمل أيضًا... تجربة يحيى خليل الفذة فى خطر... وروح موسيقاه المتمردة تواجه عبث المتخلفين والأرزقية فمن لها... هذه رسالة عاجلة للدكتور «هنو» ولعشاق الفرح فى بلادنا... أوقفوا نزيف أرواح مبدعينا الكبار قبل فوات الأوان.
0 تعليق