نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ترامب والسيسي.. كيمياء السياسة وحسابات المصالح - صوت العرب, اليوم الاثنين 18 نوفمبر 2024 09:39 مساءً
الإثنين 18/نوفمبر/2024 - 09:36 م 11/18/2024 9:36:09 PM
(الرئيس السيسي أصبح شريكًا بالغ الأهمية لإدارة ترامب، بسبب دور مصر الحاسم في سلام واستقرار المنطقة)، هكذا وصف وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق، خلال ولاية ترامب الأولى، مايك بومبيو، في كتابه (لا تُعطِ بوصة.. القتال من أجل أمريكا التي أحبُّ) Don't Give an Inch.. Fighting for the America I Love، الذي صدر في يناير 2023، طبيعة العلاقة التي جمعت بين الرئيس عبد الفتاح السيسي، ونظيره الأمريكي، دونالد ترامب.. وعقب انتصاره الكبير على منافسته الديمقراطية، كمالا هاريس، في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، حرص العديد من الزعماء العرب على تهنئة ترامب، وعلى رأسهم الرئيس السيسي، الذي اتصل به وأشاد بالإنجازات التي حققها ترامب خلال فترة ولايته الأولى التي شهدت نموًا كبيرًا في العلاقة بين الرجلين، مؤكدًا تطلع مصر لاستكمال العمل المشترك مع الرئيس ترامب فى فترة ولايته الجديدة، فى ضوء الطابع الاستراتيجى للعلاقات الممتدة على مدار عقود عديدة بين الدولتين، وكذا التعاون المُميز بين الجانبين، الذى شهدته فترة ولايته الأولى، وبما يعود على الشعبين المصرى والأمريكى بالمنفعة المشتركة، ويحقق الاستقرار والسلام والتنمية فى منطقة الشرق الأوسط.. ومن جانبه، ثمَّن الرئيس الأمريكى المنتخب اللفتة الكريمة من الرئيس، مؤكدًا اعتزازه بعلاقات الشراكة الاستراتيجية التى تجمع البلدين، وحرص الولايات المتحدة على تعزيزها وتطويرها، بما يحقق المصالح المشتركة، سواء على المستوى الثنائى أو على صعيد حفظ السلم والأمن الإقليميين.
في كتابه، حكى بومبيو، أنه التقى بالرئيس السيسي لأول مرة في 2014، حينما كان وقتها لا يزال قائدًا للجيش، أما مايك فكان عضوًا في مجلس النواب عن ولاية كانساس.. خلال هذا اللقاء، أبلغ السيسي بومبيو ومرافقيه أنه يعتزم الترشيح في الانتخابات الرئاسية المقبلة في مصر، نزولًا على رغبة الشعب المصري في ذلك.. وطلب السيسي من بومبيو، التدخل لدى الرئيس الأمريكي، وقتئذ، باراك أوباما، لإقناعه بتسليم عشر طائرات هليكوبتر من طراز أباتشي، تأجّل تسليمها بعد صيانتها للقاهرة، في أعقاب عزل الرئيس الراحل، محمد مرسي، من منصبه، وقد جمعت علاقة مضطربة بين أوباما والسيسي، في أعقاب الإطاحة بمرسي، عن منصبه، إثر ثورة الشعب المصري على حكم جماعته، في الثلاثين من يونيو 2013، التي قادتها الملايين من المتظاهرين المصريين، رفضًا لسوء إدارة مرسي للبلاد.. بعدها بعدة أشهر، أمر أوباما بتجميد جزءٍ من المساعدات العسكرية لمصر على خلفية عزل مرسي، وهو القرار الذي ظلَّ ساريًا حتى أبريل 2015، وكان مؤشرًا على التدهور الكبير في العلاقة بين أوباما والسيسي.
وفق كتاب (قواعد المقاومة: نصائح من مختلف أنحاء العالم لعصر ترامب) Rules of Resistance: Advice from Around the Globe for the Age of Trump لميلاني واتشيل، الصادر في مايو 2023، فإن الحزب الجمهوري بشكل عام تبنّى سياسة مؤيدة للسيسي، وهو ما ظهر خلال المناظرات التمهيدية في 2016، التي وُصِف السيسي في إحدى فعالياتها، بأنه (شجاع) و(رجل يجب أن نُصادقه).. في يوليو 2016، حسم ترامب ترشيح الحزب الجمهوري لصالحه في انتخابات الرئاسة، ضد مرشحة الحزب الديمقراطي، هيلاري كلينتون.. بعدها بشهرين فقط، التقى الرجلان للمرة الأولى، خلال زيارة السيسي للولايات المتحدة، ليكون السيسي أول زعيم عربي يُقابل ترامب.. وفي هذا الاجتماع، أعرب ترامب عن دعمه القوي للسيسي، ووعده بأن أمريكا ستكون (صديقة وفية لمصر)، حال فوزه بالرئاسة، مؤكدًا وجود (كيمياء كبيرة) بينهما.. وعلى الجانب الآخر، فإن السيسي صرّح في ظهورٍ له مع شبكة CNN، عقب الاجتماع، بأنه لا يشك أن ترامب (سيكون رئيسًا عظيمًا).
في يوليو 2018، كشفت سيمونا مانجيانتي، زوجة جورج بابادوبولوس، أحد مستشاري حملة ترامب للشئون الخارجية، بأن زوجها لعب دورًا كبيرًا في ترتيب هذا اللقاء، بصحبة كبير مستشاري ترامب للشئون الاستراتيجية، ستيف بانون، بسبب (اتصالاتهما المباشرة) مع عددٍ من المسئولين المصريين.. وفي نوفمبر 2016، أُعلن فوز ترامب بولايته الرئاسية الأولى، وكان السيسي أول زعيم أجنبي يتصل به ويهنئه على الفوز.. وبحسب واتشيل، فإن أنصار السيسي كانوا (في غاية السعادة) بعد فوز ترامب، وهو ما ظهر في احتفاء أجهزة الإعلام الرسمية في مصر بانتصاره، بعكس هيلاري كلينتون، التي وُصفت عدة مرات بأنها السبب في وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحُكم.
حكى جاريد كوشنير، زوج ابنة ترامب ومستشاره السياسي في مذكراته (خرق التاريخ) Breaking History أن التواصل الدبلوماسي مع السيسي بدأ حتى قبل أن يتسلّم ترامب منصبه رسميًا في يناير 2017.. وكشف كوشنير، أنه في نهاية ديسمبر 2016، تلقّى إخطارًا إسرائيليًا بأن مصر تعتزم تقديم مشروع قرار للأمم المتحدة، لإدانة الاستيطان الإسرائيلي بالضفة الغربية، باعتباره (انتهاك للقانون الدولي)، خطوة لم تكن إدارة أوباما تنوي الاعتراض عليها في أيامها الأخيرة، لكنها كانت مرفوضة من فريق عمل ترامب، حفاظًا على اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل.. بالفعل، أعلنت مصر سحب مشروع القرار، لتدفع ماليزيا والسنغال وفنزويلا إلى تقديمه مرة أخرى.. ورغم جهود كوشنير في تعطيل القرار، فإنه طُرح للتصويت وأيّده أربعة عشر عضوًا، فيما امتنعت أمريكا للمرة الأولى، عن استخدام حق الفيتو ضد قرار أممي يدين إسرائيل، ليصدر القرار بالأغلبية المُطلقة، ويمثّل إحراجًا دبلوماسيًا كبيرًا لإسرائيل.
بحسب أحد تقارير لجنة شئون الاستخبارات بمجلس النواب، التي تشرف على عمل وكالات المخابرات الأمريكية، فإن مستشار الأمن القومي الأسبق، روبرت ماكفارلين، بعث برقية إلى ديريك هارفي، مساعد رئيس اللجنة في مارس 2017، يخطره فيها أن مصر تعيش أوضاعًا اقتصادية صعبة، بالتزامن مع تدهور الظروف الأمنية في سيناء وعلى الحدود مع ليبيا، التي تجعل القاهرة في حاجة ماسة لـ (دفعة من الولايات المتحدة).. وفق البرقية، فإن الشعب المصري بات (معاديًا لأمريكا)، وأن السيسي اقترح على ماكفارلين خطوات وأفكار لإعادة بناء العلاقة بين البلدين بشكلٍ صحي.
بعدها بشهرٍ واحد، التقى الرجلان ـ كرئيسين ـ للمرة الأولى، إثر زيارة قام بها السيسي إلى البيت الأبيض، لأول مرة منذ سبع سنوات، حيث قُوبل بحفاوة كبيرة من ترامب، الذي أعلن بوضوح أنه (صديق كبير وحليف كبير)، وأنه يقف (بكل وضوح وراءه).. وبحسب ما ذكره أستاذ العلوم السياسية، محمد الشيمي، في بحثه (محددات سياسات دونالد ترامب في الشرق الأوسط للتعامل مع الإرهاب)، فإن أمريكا في عهد ترامب، أظهرت الرغبة في دعم مصر خلال حربها ضد الجماعات الدينية المسلحة في سيناء، دون أي تحفظات، بعكس إدارة أوباما، التي ربطت المساعدات العسكرية بالإصلاح الديمقراطي وملفات حقوق الإنسان.
في مايو، قام ترامب بزيارة إلى السعودية، حظيت بتغطية إعلامية مكثفة، وخلال القمة العربية الإسلامية الأمريكية، التقى الزعيمان للمرة الثالثة، وحينها أخبر السيسي ترامب بأنه (شخصية فريدة قادرة على فعل المستحيل)، وفقًا لما أورد مايكل وولف، في كتابه (نار وغضب: البيت الأبيض في عهد ترامب) Fire and Fury: Inside the Trump White House، الصادر في يوليو 2021.. بعدها بأشهر، التقى الزعيمان مرة أخرى في نيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.. وعلى الرغم من إعلان واشنطن تجميد قرابة ثلاثمائة مليون دولار من المساعدات، بسبب ما ادعته واشنطن، من مخاوفها من تردّي أوضاع حقوق الإنسان بمصر، فإن ترامب بادر بالاتصال بالسيسي بعدها بأيام معدودة، للتأكيد على حرصه إبقاء التعاون مع القاهرة مفتوحًا.. ولاحقًا قررت الإدارة الأمريكية الإفراج عن جزءٍ من هذه المساعدات.
بحسب كوشنير، فإن خلافًا وقع مع الإدارة المصرية نهاية هذا العام، عقب تقديم المجموعة العربية مشروع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يدين قرار ترامب باعتبار القدس عاصمةً لإسرائيل ونقل سفارة الولايات المتحدة إليها.. ووفقًا لمذكرات صهر ترامب، فإنه بذل جهودًا كبيرة لإثناء الدول عن دعم هذا القرار، أو على الأقل الامتناع عن التصويت، وهو ما أثمر عن امتناع خمسة وثلاثين دولة عن إعلان موقفٍ من القرار، ورفض تسع أخرى للقرار، لم تكن كافية لمنع إصداره، بعد موافقة مائة وثنانية وعشرين دولة ـ من بينها مصر ـ عليه، رغم أن ترامب هدّد بقطع المساعدات التي تقدمها أمريكا للدول الداعمة لهذه الخطوات.
في مطلع يناير 2018، زار مايك بنس، نائب ترامب مصر، وكشف في كتابه (فليساعدني الرب) May God help me، أن هذه الزيارة شهدت أزمة صغيرة خلال اجتماعه بالسيسي، بعدما رفض رجال الأمن بالقصر الرئاسي المصري، السماح للصحفيين الأمريكيين بتغطية هذا الاجتماع.. يحكي بنس أن الرئيس السيسي، استجاب لطلبه بالسماح لهم بالدخول.. وكشف مايك، أنه رغم أن السيسي أظهر معارضةً علنية للقرار الأمريكي بنقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس، فإنه كان داعمًا بشكلٍ عام لترامب، ويتطلع للتعاون معه في عددٍ آخر من القضايا.. أيضًا، حكى نائب ترامب، أنه خلال مأدبة طعام أقيمت بالقصر الرئاسي المصري، احتفاءً بقدومه، مالَ عليه السيسي وسأله، ما إذا كان رجلًا مؤمنًا، فأجابه بالإيجاب، وهو ردٌّ راقٍ لرئيس مصر وأعرب عن احترامه له.
في سبتمبر التقى ترامب والسيسي للمرة الرابعة، خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.. وفي أبريل 2019، التقى ترامب بالسيسي في البيت الأبيض مجددًا، وحينها أعلن ترامب أنه لم يسبق وأن أصبحت العلاقات بين أمريكا ومصر أفضل مما هي عليه الآن، وقال ترامب، إن مصر شهدت فوضى عارمة قبل أن يأتي السيسي إلى السلطة، ووصفه بأنه (زعيم حقيقي).. إن الرئيس السيسي نجح في تحقيق النظام والأمن داخل البلاد منذ توليه السلطة، (عندما وصل الرئيس السيسي إلى سدة السلطة، كانت البلاد في حالة من الفوضى، والآن ليس هناك فوضى).. وشدد على حرص الإدارة الأمريكية على تفعيل أطر التعاون الثنائي المشترك، وتعزيز التنسيق والتشاور الاستراتيجي القائم بين البلدين وتطويره.. وأكد ترامب على أن مصر تعد شريكًا محوريًا في الحرب على الإرهاب، معربًا عن دعم بلاده الكامل للجهود المصرية في هذا الصدد.
وقُرب نهاية ذلك العام، طلب السيسي من واشنطن التوسط لحل أزمة سد النهضة، وفق بمبيو، وهو ما استجابت له الإدارة الأمريكية بالفعل، فبدأ ترامب برعاية مباحثات مكثفة بين الطرفين، كادت أن تُسفر عن اتفاق طال انتظاره في القاهرة، لولا انسحاب إثيوبيا في اللحظات الأخيرة منه، وهو أمر أغضب ترامب، فأعلن قطع مائة مليون دولار من المساعدات الأمركيية لإثيوبيا.. وفي أكتوبر 2020، صرّح ترامب، بأن فشل المسار التفاوضي، قد يدفع القاهرة إلى (تدمير السد)، وهو ما انتقدته أديس أبابا حينها، واعتبرت أنه (تحريض على الحرب بين القاهرة وأديس أبابا).
●●●
وأخيرًا، يعود دونالد ترامب ثانية، رئيسًا للولايات المتحدة.. ولأن العالم تعرَّف عليه خلال ولايته الأولى، فإن عودته بعد جو بايدن، تمنح مصر فرصة لم تحدث من قبل مع رئيس أمريكي قادم، لتوقع سياسته الخارجية تجاه القاهرة.. وربما علينا تذكُّر أن القاهرة راهنت على ترامب قبل دخوله البيت الأبيض رئيسًا.. بدا هذا الرهان في الأشهر التي سبقت انتخابات عام 2016 الرئاسية مُستغربًا.. فرغم العلاقة المتوترة بين إدارة الرئيس الديمقراطي ـ وقتئذ ـ باراك أوباما، والرئيس عبد الفتاح السيسي، فإن عدم إعلان الانحياز تجاه أي مرشح رئاسي أمريكي، كان أحد ثوابت السياسة الخارجية المصرية.. لكن الإدارة المصرية كسرَت هذه القاعدة، في الانتخابات التي اختار فيها الحزب الديمقراطي وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون، لتمثله أمام المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، ولعل هذا الرهان هو ما جعل السيسي أول رئيس دولة يتحدث مع ترامب هاتفيًا، فور إعلانه رئيسًا قادمًا للولايات المتحدة الأمريكية.. وقتها، أشاد الرئيس المُحب للصفقات السياسية البراقة بالرئيس السيسي، خلال فترة وجوده بالبيت الأبيض، واعتبره شريكًا يمكن الاعتماد عليه لتحقيق تصورات إدارة ترامب في الشرق الأوسط، لإحلال السلام بين إسرائيل والفلسطينيين.. كما بدا ترامب متفهمًا لمخاوف مصر من سد النهضة الإثيوبي وتأثيره المباشر على أمنها المائي، في الوقت نفسه، لم يكن حريصًا على أجندة سلفه أوباما في دعم ملفيّ حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي في الشرق الأوسط، أو حتى حريصًا على الأجندة المعلنة للرئيس جورج دبليو بوش، فيما أسماه بدعم نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط.
من المرجح أن يحاول ترامب إعادة ترتيب أولويات العلاقات الأمريكية ـ المصرية.. فهل سيحافظ ترامب على نهجه تجاه مصر، مع دخوله البيت الأبيض للمرة الثانية؟.
ربما تعتمد إجابة هذا السؤال على التحولات العميقة التي تمر بها المنطقة، خصوصًا في أعقاب الحرب التي تخوضها إسرائيل في قطاع غزة، تلك الحرب التي أثرت في خطط الولايات المتحدة للانسحاب من الشرق الأوسط، ونقل ثقلها العسكري إلى منطقة المحيط الهادي لاحتواء الصين، كما تعتمد الإجابة أيضًا على أجندة المطالب الأمريكية من مصر خلال السنوات المقبلة.
خلال سنوات حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، يقول الكاتب أحمد ذكي، كانت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، منذ رونالد ريجان وحتى جورج دبليو بوش، تنظر للعلاقة مع مصر من خلال خمسة ملفات.. في مقدمة هذه الملفات، يأتي الحفاظ على السلام مع إسرائيل، ثم ملف التعاون العسكري، وملف التعاون الأمني، وملف قدرة القاهرة على تقديم غطاء سياسي للتحركات الأمريكية في المنطقة، وآخر هذه الملفات يتضمن الاستثمار في ربط الاقتصاد المصري بالشركات الأمريكية وبالسوق الأمريكية، من خلال تسهيل الصادرات المصرية للولايات المتحدة، كضمانة للحفاظ على التحالف السياسي.
من المرجح أن يحاول ترامب إعادة ترتيب أولويات العلاقات الأمريكية ـ المصرية، وفق ملفات المنطقة المشتعلة.. وبالتأكيد عند دخوله البيت الأبيض في يناير القادم، ستظل آثار الحرب الإسرائيلية في غزة مستمرة، حتى وإن توقفت العمليات العسكرية، وهو الأمر الذي سيدفع ترامب لإعلان موقفه من المطالبات الدولية بتنفيذ حل الدولتين، بما يتضمنه من تنازلات إسرائيلية لا يريد أي طرف في المعادلة السياسية الإسرائيلية الحالية تقديمها.. ومن المؤكد أن ترامب سيحاول تفعيل دولة فلسطينية منزوعة السيادة وخالية من القدس، أو من الأراضي التي تم احتلالها خلال حرب 1967، وهي الصفقة التي ستحتاج لغطاء سياسي من الدول العربية.. ومن المحتمل أن يحاول ترامب تنفيذ رؤية زوج ابنته ومستشاره السابق، جاريد كوشنر، بشأن غزة، عندما قال في جلسة بجامعة هارفارد، إن الجزء الواقع على الواجهة البحرية في غزة (قيِّم للغاية) لاستغلاله عقاريًا وسياحيًا، وأنه إذا كان يملك القرار في إسرائيل، فإنه سيبذل قصارى جهده (لإخراج الناس من غزة وتنظيفها).. إذا تبنت إدارة ترامب رؤية كوشنر لغزة، فإن ذلك سينقل مستوى التوتر السياسي والأمني في المنطقة لمرحلة أعلى، وبالطبع سيكون مطلوبًا من القاهرة أن تنخرط في جهود إثناء ترامب عن تبني هذه الرؤية الكارثية.
خلال إدارة الرئيس الأسبق، دونالد ريجان، كان الدعم المصري العسكري لجهود الإدارة الأمريكية لمساندة المجاهدين في أفغانستان، إحدى ثمار ملف التعاون العسكري، بينما كان الغطاء السياسي الذي قدمته القاهرة للحشد العسكري الأمريكي من أجل تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، أمرًا مهمًا لإدارة بوش، وهو ما أدى إلى إعفاء مصر من جزء كبير من ديونها العسكرية.. وخلال إدارتي الرئيس بيل كلينتون والرئيس جورج دبليو بوش، كان التعاون الأمني بين مصر ومجتمع الاستخبارات الأمريكي ملفًا يوازي في أهميته ملف الحفاظ على السلام مع إسرائيل، بسبب انخراط الولايات المتحدة في حربها مع تنظيم القاعدة.
وخلال كل مراحل التحالف السياسي بين القاهرة وواشنطن، حرصت الإدارات الأمريكية على عقد اتفاقات اقتصادية لزيادة الصادرات المصرية للولايات المتحدة، من أجل ضمان تحقيق الأهداف الأمريكية من العلاقة مع القاهرة، كما يقول جيسون براونلي، في كتابه (منع الديمقراطية: سياسة التحالف الأمريكي ـ المصري) Democracy Prevention: The Politics of the U.S.-Egyptian Alliance.. إذ تصاعد التعاون الأمني بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية خلال حكم كلينتون وبوش بسبب الانخراط في الحرب على الإرهاب، وتحديدًا تنظيم القاعدة، الذي كان مخترقًا من أجهزة الاستخبارات المصرية بشكل مؤثر.. وخلال إدارة أوباما، تغيرت الأجندة الأمريكية للعلاقة مع مصر. فبعد الإطاحة بمبارك كان من المهم ضمان الحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل، بينما تراجعت ملفات التعاون العسكري والأمني، في مقابل صعود ملفات جديدة، مثل ملف حقوق الإنسان، وملف التحول الديمقراطي، وهو ما عكسته مضامين البيانات الرسمية وتصريحات مسئولي إدارة أوباما خلال زيارتهم للقاهرة.
أما مع ترامب، فانشغلت السياسة الخارجية لإدارته في الشرق الأوسط، بملف الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وبالتخبط حيال الوجود العسكري الأمريكي شمال سورياـ ثم الأزمة مع الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان.. وبالطبع التورط في الأزمة الخليجية والتوتر الشديد في العلاقات بين حلفاء واشنطن في المنطقة، ومحاولة التسويق لصفقة القرن التي يعتبرها نهاية الصراع وربما تكون الفرصة الأخيرة!.. وخلال ولايته المقبلة، من المتوقع أن يعود ترامب لسياسته الأثيرة في إجراء الصفقات، التي تتضمن مقايضات بين ما تريده الولايات المتحدة مقابل رغبات الطرف الآخر.. وبالطبع، ستكون القاهرة في حاجة ملحة لدعم مالي كبير، من أجل الخروج من أزمتها الاقتصادية العميقة.. ومن المرجح أن يحاول ترامب مقايضة دعم إدارته للقاهرة، من خلال المنح والمعونات الاقتصادية، مقابل أن تكون شريكة في صفقة جديدة في المنطقة، تتضمن مقاربة (ترامبية) لحل الدولتين.
وخلال العام المقبل، ستظل أزمة سد النهضة الإثيوبي حاضرةً، وهو ما سيجعل القاهرة تطلب من إدارة ترامب دعمًا لها في هذا الملف، الذي بدأه نهاية ولايته الأولى، وتجاهلته إدارة بايدن خلال سنواتها في البيت الأبيض.. وبالطبع لن يكون دعم ترامب للقاهرة مجانيًا.. لكن، لن يكون ملف السد الإثيوبي هو الوحيد الذي تنتظر القاهرة موقف إدارة ترامب منه، بل ستنتظر أيضًا موقف ترامب من الأزمة السودانية، وما إذا كان سيلعب دورًا نشطًا في إنهاء القتال هناك، عبر الضغط على حلفاء القوتين العسكريتين، أم أنه سيُبقي على سياسة إدارة بايدن، التي اكتفت بإصدار البيانات وعقد اللقاءات، دون تحرك جدي لإيقاف القتال، والبدء في مرحلة إعادة بناء الدولة في السودان.
ومثلما بدا ترامب خلال سنواته الأربع الأولى في البيت الأبيض، كإعصارٍ هائجٍ هدفه الإطاحة بكل التقاليد الرئاسية الأمريكية، فإن عودته المرتقبة لن تخلو من إرباكٍ لحسابات حلفائه السابقين في المنطقة، خصوصًا في ظل لحظة هي الأكثر توترًا منذ عقود.. وتبدو عودة ترامب بالنسبة للقاهرة، حدثًا تتراوح النظرة إليه بين التفاؤل به بسبب ماضيه كداعم للنظام السياسي، وبين القلق من صفقاته السياسية، التي تبشر بالحل الدائم وقد لا تنتج سوى المزيد من انفجار الأوضاع في المنطقة.. وتبقى المنطقة في انتظار القادم.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.
0 تعليق